الاثنين، 23 سبتمبر 2019

سحاب اللّيل


جرس-صوت البداية ومئذنتها

كلما ساءت الأمور كثيرا.. كثيرا كان الفرج: سكينة داخلية خيط دخان كثيف يمر أمام ناظري وجه يسبح في السقف تكاشفه عيني فيتبخر أشكال تراقص من حولها جيئة وذهابا وأصوات تهمس بإسمي حتى لا أنام أخيلة بيضاء تعاند حزن الليل لمعانا تقتفيها يدي فتنتشر في المكان: كمحرقة أضيع وراء هواجسي وألهث عطشا لأتوقف عند ورقة خريف قد جف فيها عرق الندى تعبث بها مخيلتي فتتطاير على إثر الرياح مجنحة تراقصها فلا تمانع.. تلوح الورقة من بعيد كأنها الفرح لولا موسيقى الزوابع: صفير يصم الأذان وأتربة الرياح العمياء: فيها نوايا الخريف القاتلة وفيها ذاكرة هوجاء وأفرشة غبار وساعات لا تعمل وتفاصيل لا يتوقف عندها أحد.. لولا التجاعيد ولون السماء الباهت وحشرجة الأصوات لقلت أنها خلقت لتفعل بها الرياح ما شاءت: تقاتلها أو تراقصها دون أن تعاند، ثم ترمي بها في حدائق الناسات دواء كما يقولون.. لقلت أيضا أنها مزهوة بكسوتها الصفراء وبفرقعة الأشياء من حولها وتكدس الوقت في الحلق كأنه غمامة. وبموتها في البعد والجو موحش والسماء معبدة بالمطر وبالبكاء.

خيط دخان آدمي يخترق عزلتي ويذهب منتصرا. خيط حقيقي كأنه الصباح. وأنا من مكاني أتلاشى في ما قد مضى. غائبة عن كل ما يحدث وعني.. تلوكني أيامي دون رحمة.. أشيخ كل ليلة والعمر رياح وعواصف والوقت قد توقف منذ زمن والفكرة ورقة هزيلة لا حول لها ولا جذور ولا منبت. إذا ما سألني أحدهم عن عمري: أجيبه بأنه كثير من الأسئلة ومن الأوراق الصفراء ومن الضياع في أروقة خلت بعدها هياكل ومدن.. أما خلاصي كله في غد بعيد جدا أعمق من هذا الليل الكثيف وأبعد من كل هذا الغياب.

غادة الطيب بلقاسم
ليلة من ليالي سبتمبر ٢٠١٩


الخميس، 13 يونيو 2019

عام الجراد

كما تجرّدت حقول الزيتون من زيتونها، وألقت عنها همومها والأثقال، تجرّدت السماء من لونها الأزرق، فباعدَ عن سُحبها الهاربة من فوهة البركان، البركان. كما تسرّبت إلى عيون الليل اليقظة، استفاقت على خبرٍ مستعجلٍ بالكتمان. قالوا عنها أنّها خائنة لتلك السحب الراحلة، خاشعة خشوع المتوضيء من بئر الٱثام بالغفران. بدّلت عنها الوجوه، بصفائح بيضاء وملامح من عجين. ملامح لا ملامح فيها، لا سكون ولا ضجيج. خوّنوها ، فقلت لها كوني صخرة. كوني وسطا صامتا، كوني ساكنا جامدا، كوني بئرا جافا، كوني ناصية ملساء، كوني دائرة بلا قوائم، كوني حائطا أعوجا، كوني سندا أعرجا، كوني فراغا لا حدود معه ولا مُمسك له ولا ٱخِر. خانتهم في موتها وأرقها الدائم وصمتها المطبق على صدرها بالقضبان. خانتهم بثغرها الباسم على مضض وبصوتها المرتعش دائما. خانتهم لتصبح صفرا ولاّدا؟ لا، قلتُ لها. لا تكوني ولاّدة وإن كنتِ صفرا على جدار، كوني عاقرة المَبسَم، مُتبلّدة حتى العزوف. كوني صخرة لا يثقبها الزمن ولا يمرُّ من بين مسامها الضوء ولو كان ثورة. كوني لا شيء وإمضي إلى شيئك المُنتظر كنيزك مُحترق.
غادة الطيب بلقاسم
13 جوان 2015

متى سنغيّر ما بأنفسنا؟




"إن الخيال هو الحلم بشيء أفضل من الواقع
والذين لا يفكرون في غير واقعهم لا يرون شيئًا غير أقدامهم
وعادة ما يسقطون”
(فاروق جويدة)

التغيير يبدأ أوّلا بالاعتراف بأنّنا على هامش هذا العالم: لسنا سوى حفنة من البشر تتخبّط في الطين، تخطط لحياة تكون فيها هي التابع المُبجّل، كأن نقول مثلا: ما دامت أمريكا صديقتنا / وفرنسة حبيبتنا / وروسيا "خاطيتنا": نحن في أمان.
عقلية الأمان عند العربي في تونس أو خارجها من هذا الوطن المترامي هي أن نعيش بالسترة، نأكل قمامة "الأسياد" / نتنقل ونلبس بالاقتصاد المُهرّب / نقترض من هذا ونستدين من ذاك .. مقابل حياة وهميّة يغيب فيها الطموح ويخبو فيها الإبداع.
التغيير يبدأ بالكفّ عن التقليد الأعمى وأن نلتفت إلى أنفسنا أو ننقلب عليها، حتّى نتذوق حياتنا الفريدة والوحيدة قبل فواتها وفواتنا، فنقول "يا ليتني أعددت لحياتي". أن نراهن على أنّنا المخلوق الذي قد بجّله الله لحياة يَأُمُّها العقل ويرعاها القلب. أن لا نُضيع هذه الهبة الالاهيّة وهذا الوقت في النوم ومراقبة سنوات عمرنا وهي تمرُ من أمامنا.
أن لا نعود إلى تاريخنا عودة المهزوم ولا عودة حنين لأمجاد لسنا على صلة زمنيّة بها. وأن نبدأ تاريخنا من هذه اللحظة حتّى يكون تواصلا بعد غفلة.
قبل أن نبدأ .. لنفترض لنفترض أنّنا بخير.
وقبل كل شيء .. لنقرأ .

البداية الترويجيّة لسلسلة #الرسالة_الورقية من فكرة #قول_على_نص:
https://www.youtube.com/watch?v=7XOB9C6GSEI
رابط الصفحة:
https://www.facebook.com/sawtjarasse/
رابط المجموعة:
https://www.facebook.com/groups/807450212958217/

السبت، 13 أبريل 2019

تنهيدة

أسامح دائما، إلاّ من كان يعرف دواخلي، ولا يجد لي العذر وإن أخطأت.
أحبّ الجميع، ولا غيري يعلم أنّ الجميع هما غيم وصيف.

بقايا الخريف، حثالة حديث بين إثنين، أثره ناضج على كأس قهوةٍ لم يتخمر وجهها بعد.

سؤال الوجود، هي مشاهد مكرّرة في رأسٍ لم يغرهِ الظلامُ بعد بـ "التحرر"، كما لم يتدرب منذ نشأته المشي على الصراط، ليلبس العمامة وداخله زنديق.
سؤال الوجود، هو أن لا أرتاح النوم / لا أرتاحه عارية منّي / إلاّ بجانب أمّي، لتحرس جسدي من سكاكين القدر.
الفعل الوجودي الوحيد إلى حدّ اليوم، أنّني أفلحت الوجود خارج أسواري، لأصدح بي / ويسمعني أحدهم / ولا أخاف. 
2016/04/10




قد تحول جسمي إلى مكعب جليد. ورأسي من فوق يشتعل كجمرة. دمائي بحار من الدموع المالحات. وحنجرتي كهف تتدفأ داخله الأصوات وتحتسي وتضحك. الأسماء تجول
 بخاطري بسرعة الأنجم وتنتقل عبر السيالات فتلسعني. أفتح فاهي لأطلق صيحة قد طال اختناقها:
لعلي أسترد صوتي الضائع، فأستريح من تعب السكوت.
أستغيث السماوات بآعلاء صوتي، فيتشقق الجليد ويهديني الصدى:
الصفير، فالهواء، فالسكون.
أشاهد الطيور وهي تغادر أغصاني. أصيح ثم أتعب، ومن بعد الجهاد أعود لأصيح. فيخرج صوتي مبحوحا صدء: كناقوس هرم. كصرير باب قديم. كمدخنة مغلفة بتراب الأيام، قلبها يشتعل: أكرر أيامي. يتحول قلبي إلى رخام. وكسائي من اللحم يستحيل إلى كتلة من طين.
2018/03/22


غادة طيب بلقاسم

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

سباحة على الرصيف


لي في فهم الكلام ما ليس لكم في قوله
تجتمع النوايا مشكلة قوسا داكنا في السماء
وأنا في الأسفل أترجم كل ما لم يقال
من السهل على الريح المسافرة أن تعكر صفوي
تجرحني نبرة المتكلم: إذا ما كانت حادة
ويؤنسني صمت الخليقة وكفافها عني

أقف أمام فعل لا شيء رافعة سيفي
من الدموع ومن الأوجاع
كلمة بسيطة لا معنى لها..
لها أن تخلف كما هائلا
من الركام ومن العطش

كأني قد خلقت من "وهن"
لا "من صلصال من حمإ"
خلقت شفافة ومختفية
وزادت الأيام فأنهكت أضلعي
باللحم .. وبغبار الرحيل
وبتبدل الوجوه
وبتقلبات الطقس المجنون

خلقت على اليابسة في يوم كان حر
لا أحب من البحر غير رائحته
لا أبحث في موجه عن المتعة
لم أتعلق بالقش.. يوما
لكنني تعلقت بالغرقى
لأسبح في النهاية
في مالح عبراتي.
غادة الطيب بلقاسم
25 سبتمبر 2018

لوحة من أعمال التشكيلي نذير نبعة

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

كلام من حميم

صورة للفنان التشكيلي الليبي معتوق أبوراوي

الكلمات.. لا تعدو أن تكون مخلوقات طفيلية غرست في أحشائنا وجعلت لها منبت وجذور. منها الطيب وبعضها الآخر سام. أما النوع الأول فنادر. والثاني طبعا فسريع النمو والانتشار، وعندما يتعاظم حجمه يتم اقتلاعه بواسطة حبال غليظة ومتينة، ليخرج علينا كخلية نحل قصد الفتك بنا حتى الموت. يذكرني الحبل بلعبة يحاول فيها القوي جذب الأضعف منه لساحته، ليقعا في النهاية بكيفية يكون فيها المنتصر جاثيا على ركبتيه، أو على بطنه إذا ما أبدى الخصم مقاومة أكبر، أما المهزوم فيكون طريح الظهر منكسر اليدين على وجهه مواصلا الدفاع عن نفسه حتى بعد إعلان الهزيمة. هي لعبة الساحات وعرض للقوى، كأن يشد كل حبل كلمة إلى الخارج فترتطم بأول وجه يصادفها وتصفعه، كسمكة دفعت غصبا من حوض الماء إلى ساحة تجهلها ولا تستطيع فيها ابتلاع أنفاسها، حتما ستستقبل أول شيء ترتطم به بالصفع لا بالقبلات. هي ذات القواعد في لعبة الكلمات، يندفع مركب لاذع نحو الخارج، فيما تنزلق الكلمات الدافئة نحو الداخل، تنزلق هكذا وتتبخر من ضعفها.
ماذا لو خلق الواحد منا أخرسا، وكانت أسباب الموت هي  التفكير في النطق ودفع الكلمات خارج الجسد، وكلما كان عدد الكلمات أكبر كأن يفكر أحدهم في قول خطبة يكثر فيها الكذب، كانت ميتته أشنع، كأن ينفجر ويتوزع جسمه شتاتا على جدران الجيران. التفكير في الكلام، مجرد التفكير فيه، عبارة عن قنبلة متفجرة لحما
لخفت الأرض أكثر، فالناس ومن عليها متوزعون بالعدل، كل يحاول بلع بلعومه، فرادى فرادى، لما اجتمع عندها عدد هائل من البشر في حفلة للنميمة، ولما اجتمعوا أيضا في مأتم للنميمة أيضا، لما اجتمع الساسة لاقتسام المرطبات، ولما سافرت تلك السفينة الملعونة لإبادة الهنود في بعيد أرض الله من شمال إفريقية. لخفت الشوارع من العيون، ولأسرع الناس إلى هدفهم أكثر. لمات الصوت المعشش في رؤوس البعض، ولارتاحت الحقيقة وسافرت الأحلام عند فرويد، لصمت الجميع أولهم معتنقو التنمية ومذيعي الأرصاد ومتفقهي النفاق، ولارتاح التاريخ من تكرار نفسه عبثا، ولنقيت الكتب من شوائب البعض من حفظتها زورا. ولتحطم المذياع من عند نفسه، ولتفرجت التكنولوجيا على بعضها وتثاءبت مللا.
ولسكنت الديار من الحروب ولتفجر المرتزقة حتما، ولضحكت الحوريات من أشلائهم كثيرا. ولما كانت الحاجة
لهذا المعجم (سياسة دولية علاقات استراتيجية ديبلوماسية ونظرية وتكتيك عدو او صديق.. ولا وسفارات ولا حب)
غادة الطيب بلقاسم

Photo: ART.iculer

السبت، 20 يناير 2018

وجوه عائمة 3 - نصٌ قبيحٌ



سأحلم - يقولها "درويش" معلنا عن بدء جداريته.
"سأحلم، ربما اتّسعت بلاد لي". يتعالى نشيجه رافعا باسم الحياة راية تخفق رغم ضيق الشوارع، برد الضلوع والحنايا،  وقبح الظلام .
ينسحب آخر صوت أجش من حنجرته، وتتلاشى المعاني رويدا عن مفكّرتي، ليبقى الحلم.
إذن سأفعل كما فعل الجدار  برأس محمود، و"أنسى الألم".
أرتمي بجسمي إلى الوراء، وعلى مهل يرتخي رأسي نحو الجدار، أنسى الأسامي وينساني الوقت، أركز فقط على استقامة رأسي حتّى لا تقفز الوعود التي أقسمت بالمقدسات على حفظها،:كأن لا أضرب برأسي عرض الحائط، كأن لا أتراجع في خلوتي وتنساني الممرات. أستلقي هكذا في هدوء من الحياة، ساحبةً الهواء بعنف إلى رئتيّ، مُنفِسّةً التراب عن جثث مكامني،  مغمضة عيني عن الدنيا. ربما عقب كلّ هذا التعب: سأحلم.
تنفرج صفحات الرواية عن وجه غليظ الملامح، دميمهِ، ربما ذلك الوجه هو أسئلتي المعلّقة.
خليط من الأعين والأجناس. ورائحة من الماضي تفوح كريهةً. وحواراتٌ مبحوحةٌ. ودخانُ السّنين.
هي عاداتي في فتح الروايات جُملةً. مقارنَةً بذلك جنون كتّابها.
واللّيل عين اللصوص وجليس السحرة. يتربص بوعودي. ليجرني نحو الجنون.
تتهالك الشخوص متعبةً في شكل وحش آدمي.
تختلط أسماؤهم وعناوين منازلهم ويفيض الزمان من الورق.
يعاتبني بطل الرواية الأولى بأنّني سرقت الوقت منه ومنحتها لبطل الرواية الثانية.
يعاتبني الثاني بأنّني لم أكن مخلصة القراءة وأنا أفكر في مصير الأوّل.
تعاتبني أيّامي على كلّ هذا الهذر.
وتفوح من دواخلي -وأنا في ااستقالتي تلك- رائحة شواء.
يعلو الكرسي بيا نحو السماء.
أو تنخفض الأرض من تحتي.
هي عادتي التي أقسمت أيضا على التخلص منها.
ولم أفلح:
الندم.

غادة طيب بلقاسم

الأربعاء، 28 يونيو 2017

خيط الزمن

بينما أجلس، هنا، لا أزيد العالم فائدة، متبرمة من شدة الحرارة وهيجان الحشرات الجنوني، أهش الذباب وأتثاءب مللا. يجلس في جنوب هذه القارة فيل يكابد الملل مثلي، يمتص خرطومه الماء وينفثه نحو السماء، فيرتوي جسمه الأملس وينتعش. يصفق بأذنيه الكبيرتين ليطرد عنه الدود المتمعش. يكسر صمت الطبيعة من حوله باطلاق صيحاته الحادة والمتقطعة، حتى لا تنفرد به شياطينه الوسواسة وحيدا، مغرية إياه بأكل لحم الفيلة الأخرى.
بينما أحن إلى شجرة يسكنها النمل المجاهد، تعاند الزمان بوقفتها، ثبات جذعها رغم العواصف، لونها المتجدد، وظلها الوافر. أعلك الوقت المنساب من "عيني"، وأفرقع به أصواتا تخاطب العدم. أحصي منشورات إدمان القراءة و واحتساء القهوة. أترك إعجابا هنا أوهناك وأوزع القلوب دون حساب. وكتاب مركون على جانبي، يأكله غبار رقيق، ويلتهم ورقه الأصفر سوس مثقف.
غادة طيب بلقاسم

هروب

محاولة في اللاوجود.
أكون فيها كبشر العهد الأول حجما، ممسكة بعقرب الزمن بيميني، والمكان يتحول إلى واحة في شمالي. أغلق عليهما الراحات وأجلس القرفصاء، دون حركة.
يتوقف الهواء عن العبث بخصلاتي السائبة، ويتبدى يومي "فجرا طويلا" كما حدثنا المسعدي، لا ظلمة فيه ولا شمس نهار.
أن أختفي.
أن تتوقف ساعة الجدار عن العبث برأسي.
أن تشيع سكينة لا حركة بعدها ولا صوت.
أن أمشي حتى يتقطع نعلي، وأنسى لماذا بعثت في الأرض لأمشي.
أن تغيب الوجوه ومعها الأسئلة ودروس الحياة والضمير.
أن أقترب إلى السماء، ولا يعرفني فيها أحد، أضيع في زرقتها، تتركني الملائكة لما خلفت ورائي من منتظرين، إلى أن ترأف بحالي سحابة مهاجرة باعثة في روحي الندى، فأنتهي قطرة مكفرة عن ذنبها، تروي طيرا طال عطشه، وتسقي حرث أرض متشققة.
تصير الأسماء مقاطع أغنية لا أحفظها، تهزني موسيقاها الشرقية، فأصير حكاية من حكايا المجانين أو عود عنبر تحرقه النظرات السائبة، فيتبخر عطرا يداوي الروح وينزع عنها الضجر.
غادة طيب بلقاسم

الأحد، 4 يونيو 2017

هروب على وقع ال Padam

متى سأُتم معجزتي، لأطْلق طائر الدنيا. -أحمد بخيت
صوت أحذية المارة على الاسفلت يحدث وقعا منتظما أسايره -مع ارتخاءة كاملة وأنا مغمضة العينين- بهزة خفيفة من رأسي. حبات المطر عنصر ضروري لاكتمال المشهد، تنخرط القطرات المتسارعة في تشكيل لوحة ال Padam، فيزداد رأسي اضطرابا.
Cet air qui m'obsède jour et nuit
Cet air n'est pas né d'aujourd'hui
Il vient d'aussi loin que je viens
Traîné par cent mille musiciens
تختلط أصوات الأشياء بالغوغاء، وايقاعات الأحذية بحوافر الأحصنة وهي تجر عرباتها. أما صوت ال Padam Padam، تعزفه حنجرة بياف الصافية يعلو جميع الأصوات. تتعالى الذبذبات الراقصة من مقهى يروي أيام باريس القديمة.
ايقاعات رأسي ترتفع فترتفع كتفاي معها، ثم تخبو، فأستعيد سكوني. مسايرة تغيرات هذا الصخب بابتسامات متواترة، ترتفع لها الخدود أو ترتخي. المشاهد تتكثف والمارة تتسارع خطواتهم والاسطوانة تعيد ذات الأغنية. يتوقف المطر عن الهطول، مخلفا مشهد تعشقه عين الواحد، وايقاع آخر محبب، خفيف على الأذن، أقل انتظاما وأكثر دلالا، الحبات تقفز واحدة تلو الأخرى من كل مرتفع نحو القاع الصلبة.
صوت الصمت
الريح لذيذة تهتز لها قشرة الأرض
أبيض الستينيات وأسودها الداكن
ألبسة النساء الأنيقة وتسريحاتهن المرتفعة نحو السماء
قبعات الرجال وبدلاتهم ذات السراويل الفضفاضة
خوار القطط المبللة
..
أستيقظ من نشوتي، وذات اللوحة مرتسمة على وجهي. أغير الأغنية، مبقية على ميزة "تكرارالمقطوعة" على حاله. ثم أعاود الهروب نحو معجزة أخرى.
غادة طيب بلقاسم
05/06/2017

الأربعاء، 29 مارس 2017

متصوفة بربر - سحر الواحة : شنني



جالسٌ علي كرسيٍ من جذوعِ نخلِ هذه الأرض الجنوبيّة. تصِلك أنواعٌ مختلفة من الأهازيج وأصواتٌ تختلط فيها
 النبرات: من مارين بأحاديثهم الشتّى، ومن سياراتٍ فاخرة وأخرى متواضعة تفضحُ جيبَ راكيبيها ومحدوديّة قدرتهم على الكسب، ومن كائنات أخرى تُحلّق في سماء هذه الأرض الجنوبيّة فتُسمعنا أحاديثها العشوائيّة، أو رابضة على ترابِ هذه السمراء تنعمُ بشمس الله المشرقة تسكنها سكينة ساذجة وتعلوها طمأنينة أهل هذه القرية وطيبتهم وخوار لذيذ يدفعك إلى الابتسام. جالسٌ في مقهيً أو منتزهٍ من منتزهات واحةِ شنني الواقعة بين جبال الجنوب التونسيّ من ولاية قابس، المطلّة علي البحر المتوسط السابحة مع موجاته منذ القِدم، ترسم تاريخها العريق وتشهد على ما مرّ على هذه البلدة العربيّة من خيبات ونكسات، وتبتسم عقب النجاحات والانتصارات. شنني الواحة الغناء بنخيلها السامق ورُمّانها المزهر، وبتسميتها البربرية وعاداتها المُنبجسة من حضاراتٍ خصبة قد وزّعت من رحِمها خيراتها على هذه الواحة فأنجبت مزيجا ساحرا تتذكر منه مخيلتنا الفروع البربرية والمرور الروماني والبيزنطي (سد الرحى، القوص الروماني والشرشارة / معالم رومانيّة) وصولا إلى النسيج الحضاري العربي الاسلامي الشاهد على خصوصيّة هذه الرقعة الجغرافيّة الثائرة، والمضفي عليها رونقا عربيّاً صوفياً بديعاً.
وأنت تمرّ بين زقاقها الضيقة أو طرقاتها الرحبة، متفسحاً بنظرك حد المدى، مشدوها لتلك المُخيّلة، تجدُ نفسك منشدّاً إلى رونقِ المعمار في طابعه التقليديّ المُعصرن، مزيجٌ من الفَوتِ والحاضر غريب، وروحٌ مدهشة تبعثُ في دواخلك الغبطة، ربما هي رائحةُ النخيل وفعله في النفوس، ربما هي الخضرة المُطلّة بين جنبات الديار وبين شقوق الوديان وعلى ضفاف السواقي، أو هي زرقة السماء رغم فعل الانسان بها، كأنّها بذلك تتحدّى يدنا المّخربة بابتسامة مشرقة كلّ يوم، وبصفاء اِلاهي اخّاذ.
هنا، في هذه الواحة، أنت عنصرٌ من عناصرِ اللّوحة، وبطلٌ من أبطالِ الحكاية، سطرٌ حضاريٌ مُخضرم، أو أنت كما قد قال عبد الرحمن منيف "غريب" في كل مكان آخر، وفاعل ديناميكي هنا : أنت "في الأماكن الأخرى غريب وزائد، أمّا هنا إنّ كل ما تفعله ينبع من القلب يصبُّ في قلوب الآخرين. وهذا الذي يُقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شيء هنا لك .. التفاصيل الصغيرة التي تجعل الانسان يحسّ بالانتماء والارتباط والتواصل" .
هنا، محتفلا كنت أو في مأتم، ملتصقاً بهموم الآخرين وبما قد يُفرحهم، أنت كما هم، في ترحالٍ فعليّ وحسيّ دائم، تتشارك معهم أفعالَ الفرحِ، تُؤنسُ أعراسهم بالسهرِ لثلاثةِ أيامٍ قد يسبقها الهرج والرقص بأيام اُخريات، فتتزين بحنّة هذه الأرض كما تزيَّن أهل العُرس، وتهدي الهدايا ممّا أنبتت هذه الأرض أو ما صاغته في براعةٍ أيدي النسّاجين من ملبسٍ، وما حوّلته قُدرة الانسان ومهارته من طين هذه الأرض وأحالته إلى فخّارٍ مّزركشٍ، إضافة إلى ما قد ترتديه من حُليٍّ له أبعاده الوجوديّة وهذا الارثُ القديمُ من "الخلال" و"الحوتة" و"قرن الغزال"، أو "الحولي" الأحمر الحريري (اللباس التقليديّ الجنوبيّ بربريُّ الأصلِ للنساء)، أو الجبّة المُطرّزة بالأيدي (لباسُ الرجالِ التقليديّ)، كما تأكلُ "الكُسكسي" في المحافل كما في المآتم، تعبيراً مخلصا منهم عن الفرح كما عن الحزن، وجودٌ دائم قد ميّز أهل الجنوب كافّة وكرمٌ عربيٌ عنوانه أهل شنني-قابس الواحة.
غادة طيب بلقاسم