الأربعاء، 28 يونيو 2017

خيط الزمن

بينما أجلس، هنا، لا أزيد العالم فائدة، متبرمة من شدة الحرارة وهيجان الحشرات الجنوني، أهش الذباب وأتثاءب مللا. يجلس في جنوب هذه القارة فيل يكابد الملل مثلي، يمتص خرطومه الماء وينفثه نحو السماء، فيرتوي جسمه الأملس وينتعش. يصفق بأذنيه الكبيرتين ليطرد عنه الدود المتمعش. يكسر صمت الطبيعة من حوله باطلاق صيحاته الحادة والمتقطعة، حتى لا تنفرد به شياطينه الوسواسة وحيدا، مغرية إياه بأكل لحم الفيلة الأخرى.
بينما أحن إلى شجرة يسكنها النمل المجاهد، تعاند الزمان بوقفتها، ثبات جذعها رغم العواصف، لونها المتجدد، وظلها الوافر. أعلك الوقت المنساب من "عيني"، وأفرقع به أصواتا تخاطب العدم. أحصي منشورات إدمان القراءة و واحتساء القهوة. أترك إعجابا هنا أوهناك وأوزع القلوب دون حساب. وكتاب مركون على جانبي، يأكله غبار رقيق، ويلتهم ورقه الأصفر سوس مثقف.
غادة طيب بلقاسم

هروب

محاولة في اللاوجود.
أكون فيها كبشر العهد الأول حجما، ممسكة بعقرب الزمن بيميني، والمكان يتحول إلى واحة في شمالي. أغلق عليهما الراحات وأجلس القرفصاء، دون حركة.
يتوقف الهواء عن العبث بخصلاتي السائبة، ويتبدى يومي "فجرا طويلا" كما حدثنا المسعدي، لا ظلمة فيه ولا شمس نهار.
أن أختفي.
أن تتوقف ساعة الجدار عن العبث برأسي.
أن تشيع سكينة لا حركة بعدها ولا صوت.
أن أمشي حتى يتقطع نعلي، وأنسى لماذا بعثت في الأرض لأمشي.
أن تغيب الوجوه ومعها الأسئلة ودروس الحياة والضمير.
أن أقترب إلى السماء، ولا يعرفني فيها أحد، أضيع في زرقتها، تتركني الملائكة لما خلفت ورائي من منتظرين، إلى أن ترأف بحالي سحابة مهاجرة باعثة في روحي الندى، فأنتهي قطرة مكفرة عن ذنبها، تروي طيرا طال عطشه، وتسقي حرث أرض متشققة.
تصير الأسماء مقاطع أغنية لا أحفظها، تهزني موسيقاها الشرقية، فأصير حكاية من حكايا المجانين أو عود عنبر تحرقه النظرات السائبة، فيتبخر عطرا يداوي الروح وينزع عنها الضجر.
غادة طيب بلقاسم

الأحد، 4 يونيو 2017

هروب على وقع ال Padam

متى سأُتم معجزتي، لأطْلق طائر الدنيا. -أحمد بخيت
صوت أحذية المارة على الاسفلت يحدث وقعا منتظما أسايره -مع ارتخاءة كاملة وأنا مغمضة العينين- بهزة خفيفة من رأسي. حبات المطر عنصر ضروري لاكتمال المشهد، تنخرط القطرات المتسارعة في تشكيل لوحة ال Padam، فيزداد رأسي اضطرابا.
Cet air qui m'obsède jour et nuit
Cet air n'est pas né d'aujourd'hui
Il vient d'aussi loin que je viens
Traîné par cent mille musiciens
تختلط أصوات الأشياء بالغوغاء، وايقاعات الأحذية بحوافر الأحصنة وهي تجر عرباتها. أما صوت ال Padam Padam، تعزفه حنجرة بياف الصافية يعلو جميع الأصوات. تتعالى الذبذبات الراقصة من مقهى يروي أيام باريس القديمة.
ايقاعات رأسي ترتفع فترتفع كتفاي معها، ثم تخبو، فأستعيد سكوني. مسايرة تغيرات هذا الصخب بابتسامات متواترة، ترتفع لها الخدود أو ترتخي. المشاهد تتكثف والمارة تتسارع خطواتهم والاسطوانة تعيد ذات الأغنية. يتوقف المطر عن الهطول، مخلفا مشهد تعشقه عين الواحد، وايقاع آخر محبب، خفيف على الأذن، أقل انتظاما وأكثر دلالا، الحبات تقفز واحدة تلو الأخرى من كل مرتفع نحو القاع الصلبة.
صوت الصمت
الريح لذيذة تهتز لها قشرة الأرض
أبيض الستينيات وأسودها الداكن
ألبسة النساء الأنيقة وتسريحاتهن المرتفعة نحو السماء
قبعات الرجال وبدلاتهم ذات السراويل الفضفاضة
خوار القطط المبللة
..
أستيقظ من نشوتي، وذات اللوحة مرتسمة على وجهي. أغير الأغنية، مبقية على ميزة "تكرارالمقطوعة" على حاله. ثم أعاود الهروب نحو معجزة أخرى.
غادة طيب بلقاسم
05/06/2017

الأربعاء، 29 مارس 2017

متصوفة بربر - سحر الواحة : شنني



جالسٌ علي كرسيٍ من جذوعِ نخلِ هذه الأرض الجنوبيّة. تصِلك أنواعٌ مختلفة من الأهازيج وأصواتٌ تختلط فيها
 النبرات: من مارين بأحاديثهم الشتّى، ومن سياراتٍ فاخرة وأخرى متواضعة تفضحُ جيبَ راكيبيها ومحدوديّة قدرتهم على الكسب، ومن كائنات أخرى تُحلّق في سماء هذه الأرض الجنوبيّة فتُسمعنا أحاديثها العشوائيّة، أو رابضة على ترابِ هذه السمراء تنعمُ بشمس الله المشرقة تسكنها سكينة ساذجة وتعلوها طمأنينة أهل هذه القرية وطيبتهم وخوار لذيذ يدفعك إلى الابتسام. جالسٌ في مقهيً أو منتزهٍ من منتزهات واحةِ شنني الواقعة بين جبال الجنوب التونسيّ من ولاية قابس، المطلّة علي البحر المتوسط السابحة مع موجاته منذ القِدم، ترسم تاريخها العريق وتشهد على ما مرّ على هذه البلدة العربيّة من خيبات ونكسات، وتبتسم عقب النجاحات والانتصارات. شنني الواحة الغناء بنخيلها السامق ورُمّانها المزهر، وبتسميتها البربرية وعاداتها المُنبجسة من حضاراتٍ خصبة قد وزّعت من رحِمها خيراتها على هذه الواحة فأنجبت مزيجا ساحرا تتذكر منه مخيلتنا الفروع البربرية والمرور الروماني والبيزنطي (سد الرحى، القوص الروماني والشرشارة / معالم رومانيّة) وصولا إلى النسيج الحضاري العربي الاسلامي الشاهد على خصوصيّة هذه الرقعة الجغرافيّة الثائرة، والمضفي عليها رونقا عربيّاً صوفياً بديعاً.
وأنت تمرّ بين زقاقها الضيقة أو طرقاتها الرحبة، متفسحاً بنظرك حد المدى، مشدوها لتلك المُخيّلة، تجدُ نفسك منشدّاً إلى رونقِ المعمار في طابعه التقليديّ المُعصرن، مزيجٌ من الفَوتِ والحاضر غريب، وروحٌ مدهشة تبعثُ في دواخلك الغبطة، ربما هي رائحةُ النخيل وفعله في النفوس، ربما هي الخضرة المُطلّة بين جنبات الديار وبين شقوق الوديان وعلى ضفاف السواقي، أو هي زرقة السماء رغم فعل الانسان بها، كأنّها بذلك تتحدّى يدنا المّخربة بابتسامة مشرقة كلّ يوم، وبصفاء اِلاهي اخّاذ.
هنا، في هذه الواحة، أنت عنصرٌ من عناصرِ اللّوحة، وبطلٌ من أبطالِ الحكاية، سطرٌ حضاريٌ مُخضرم، أو أنت كما قد قال عبد الرحمن منيف "غريب" في كل مكان آخر، وفاعل ديناميكي هنا : أنت "في الأماكن الأخرى غريب وزائد، أمّا هنا إنّ كل ما تفعله ينبع من القلب يصبُّ في قلوب الآخرين. وهذا الذي يُقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شيء هنا لك .. التفاصيل الصغيرة التي تجعل الانسان يحسّ بالانتماء والارتباط والتواصل" .
هنا، محتفلا كنت أو في مأتم، ملتصقاً بهموم الآخرين وبما قد يُفرحهم، أنت كما هم، في ترحالٍ فعليّ وحسيّ دائم، تتشارك معهم أفعالَ الفرحِ، تُؤنسُ أعراسهم بالسهرِ لثلاثةِ أيامٍ قد يسبقها الهرج والرقص بأيام اُخريات، فتتزين بحنّة هذه الأرض كما تزيَّن أهل العُرس، وتهدي الهدايا ممّا أنبتت هذه الأرض أو ما صاغته في براعةٍ أيدي النسّاجين من ملبسٍ، وما حوّلته قُدرة الانسان ومهارته من طين هذه الأرض وأحالته إلى فخّارٍ مّزركشٍ، إضافة إلى ما قد ترتديه من حُليٍّ له أبعاده الوجوديّة وهذا الارثُ القديمُ من "الخلال" و"الحوتة" و"قرن الغزال"، أو "الحولي" الأحمر الحريري (اللباس التقليديّ الجنوبيّ بربريُّ الأصلِ للنساء)، أو الجبّة المُطرّزة بالأيدي (لباسُ الرجالِ التقليديّ)، كما تأكلُ "الكُسكسي" في المحافل كما في المآتم، تعبيراً مخلصا منهم عن الفرح كما عن الحزن، وجودٌ دائم قد ميّز أهل الجنوب كافّة وكرمٌ عربيٌ عنوانه أهل شنني-قابس الواحة.
غادة طيب بلقاسم

السبت، 21 يناير 2017

هي ،، رائحة السماء

أقول أنّها شعرة التوازنِ الرقيقة
فتَحَتْ الرياح نصف فاهِها ونطَقتْ
فسقطتُ في قعرِ الجحيم
وساد الظلام
ضاعت الشعرة بين اليمين واليسار
وما ركنَت
لا هواء لأتنفسه هنا ولا جدران أستندها لأقف
وشعرة التوازن الرقيقة لم تهدأ
لأستعيد إستقامتي
أقول أنّها شعرة التوازن الرقيقة
أو هي الجناحُ ريشةً ريشة
بيضاءٌ جميعها كزفرة الصباح
وناعمة كوجهها
وهي الجناحان معا لطائر مهاجر فقد سربه
جناحاه (فقط) طريقه ،، ومنقذه
وليذهب السرب جميعه نحو الجحيم
فتتبعه حجارتي كالخيط
ولتبقى هي شعرة نجاة
أضيع إذا ما سيطرت أفكاري عليَّ
ولا يحمل رأسي غير أفكارِ الغرق
ليست هي الريشة هنا بل هي الزورق
وخيالاتي فقط هي البحر الهائج
وموج الشتاء الغاضب
وهي الهدوء
وضمير الالاه الرحيم
أضيع في بحر الخطايا وأعاود التفكير
آ شيطان داخلي وهي الخشوع
أو أنّ ضدّي يسخر منّي
أو أنّي جُننت
لا أذكر الشيء منذ إلتقينا
لا الوصايا ولا الخطب
فقط هو صوت جلل
يقول بأن هوِّني عليكِ
يخرج من أعماقي (كلّ ما قفزت ذكرياتي لترقص أمامي)
رافعا بأنّها هنا .. ليذهب السرب جميعه نحو السماء
ولتبقى هي