الأربعاء، 29 مارس 2017

متصوفة بربر - سحر الواحة : شنني



جالسٌ علي كرسيٍ من جذوعِ نخلِ هذه الأرض الجنوبيّة. تصِلك أنواعٌ مختلفة من الأهازيج وأصواتٌ تختلط فيها
 النبرات: من مارين بأحاديثهم الشتّى، ومن سياراتٍ فاخرة وأخرى متواضعة تفضحُ جيبَ راكيبيها ومحدوديّة قدرتهم على الكسب، ومن كائنات أخرى تُحلّق في سماء هذه الأرض الجنوبيّة فتُسمعنا أحاديثها العشوائيّة، أو رابضة على ترابِ هذه السمراء تنعمُ بشمس الله المشرقة تسكنها سكينة ساذجة وتعلوها طمأنينة أهل هذه القرية وطيبتهم وخوار لذيذ يدفعك إلى الابتسام. جالسٌ في مقهيً أو منتزهٍ من منتزهات واحةِ شنني الواقعة بين جبال الجنوب التونسيّ من ولاية قابس، المطلّة علي البحر المتوسط السابحة مع موجاته منذ القِدم، ترسم تاريخها العريق وتشهد على ما مرّ على هذه البلدة العربيّة من خيبات ونكسات، وتبتسم عقب النجاحات والانتصارات. شنني الواحة الغناء بنخيلها السامق ورُمّانها المزهر، وبتسميتها البربرية وعاداتها المُنبجسة من حضاراتٍ خصبة قد وزّعت من رحِمها خيراتها على هذه الواحة فأنجبت مزيجا ساحرا تتذكر منه مخيلتنا الفروع البربرية والمرور الروماني والبيزنطي (سد الرحى، القوص الروماني والشرشارة / معالم رومانيّة) وصولا إلى النسيج الحضاري العربي الاسلامي الشاهد على خصوصيّة هذه الرقعة الجغرافيّة الثائرة، والمضفي عليها رونقا عربيّاً صوفياً بديعاً.
وأنت تمرّ بين زقاقها الضيقة أو طرقاتها الرحبة، متفسحاً بنظرك حد المدى، مشدوها لتلك المُخيّلة، تجدُ نفسك منشدّاً إلى رونقِ المعمار في طابعه التقليديّ المُعصرن، مزيجٌ من الفَوتِ والحاضر غريب، وروحٌ مدهشة تبعثُ في دواخلك الغبطة، ربما هي رائحةُ النخيل وفعله في النفوس، ربما هي الخضرة المُطلّة بين جنبات الديار وبين شقوق الوديان وعلى ضفاف السواقي، أو هي زرقة السماء رغم فعل الانسان بها، كأنّها بذلك تتحدّى يدنا المّخربة بابتسامة مشرقة كلّ يوم، وبصفاء اِلاهي اخّاذ.
هنا، في هذه الواحة، أنت عنصرٌ من عناصرِ اللّوحة، وبطلٌ من أبطالِ الحكاية، سطرٌ حضاريٌ مُخضرم، أو أنت كما قد قال عبد الرحمن منيف "غريب" في كل مكان آخر، وفاعل ديناميكي هنا : أنت "في الأماكن الأخرى غريب وزائد، أمّا هنا إنّ كل ما تفعله ينبع من القلب يصبُّ في قلوب الآخرين. وهذا الذي يُقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شيء هنا لك .. التفاصيل الصغيرة التي تجعل الانسان يحسّ بالانتماء والارتباط والتواصل" .
هنا، محتفلا كنت أو في مأتم، ملتصقاً بهموم الآخرين وبما قد يُفرحهم، أنت كما هم، في ترحالٍ فعليّ وحسيّ دائم، تتشارك معهم أفعالَ الفرحِ، تُؤنسُ أعراسهم بالسهرِ لثلاثةِ أيامٍ قد يسبقها الهرج والرقص بأيام اُخريات، فتتزين بحنّة هذه الأرض كما تزيَّن أهل العُرس، وتهدي الهدايا ممّا أنبتت هذه الأرض أو ما صاغته في براعةٍ أيدي النسّاجين من ملبسٍ، وما حوّلته قُدرة الانسان ومهارته من طين هذه الأرض وأحالته إلى فخّارٍ مّزركشٍ، إضافة إلى ما قد ترتديه من حُليٍّ له أبعاده الوجوديّة وهذا الارثُ القديمُ من "الخلال" و"الحوتة" و"قرن الغزال"، أو "الحولي" الأحمر الحريري (اللباس التقليديّ الجنوبيّ بربريُّ الأصلِ للنساء)، أو الجبّة المُطرّزة بالأيدي (لباسُ الرجالِ التقليديّ)، كما تأكلُ "الكُسكسي" في المحافل كما في المآتم، تعبيراً مخلصا منهم عن الفرح كما عن الحزن، وجودٌ دائم قد ميّز أهل الجنوب كافّة وكرمٌ عربيٌ عنوانه أهل شنني-قابس الواحة.
غادة طيب بلقاسم